الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
ويناسب هنا أن ننقل شرح حديث شعب الإيمان وكلام العلماء في إحصائها من فتح الباري. فتلك خمسة وللإيمان *** ستة أركان بلا نكران إيماننا بالله ذي الجلال *** وما له من صفة الكمال وبالملائكة الكرام البرره *** وكتبه المنزلة المطهرة ورسله الهداة للأنام *** من غير تفريق ولا إيهام (فتلك) الأركان المتقدمة التي هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا (خمسة) فسر النبي صلى الله عليه وسلم بها الإسلام فاعلمها واحتفظ بها واعملها وعلمها، فسوف تسأل عنها وتحاسب عليها، فأعدد للسؤال جوابا، وإياك أن تخل بشيء منها فتكون من الظالمين.
(وللإيمان ستة أركان) فسره بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل وغيره (بلا نكران) للنقل ولا تكذيب للخبر ولا شك في الاعتقاد ولا استكبار عن الانقياد.
الأول منها (إيماننا بالله) بإلهيته وربوبيته لا شريك له في الملك ولا منازع له فيه ولا إله غيره ولا رب سواه، واحد أحد فرد صمد لم يتخد صاحبة ولا ولدا ولا يشرك في حكمه أحدا، ولا ضد له ولا ند ولم يكن له كفوا أحد (ذي الجلال) ذي العظمة والكبرياء الذي هو أهل أن يجل فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ويوحد فلا يشرك معه غيره ولا يو إلى إلا هو: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء) (الأنعام: 164) (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض) (الأنعام: 14) (أفغير الله أبتغي حكما) (الأنعام: 114) (أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) (الزمر: 64) (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (الأنعام: 102- 103). (و) الإيمان ب (ماله) تعالى (من صفة الكمال) مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى وإمرارها كما جاءت بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، وأن كل ما سمى الله تعالى ووصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم الكل حق على حقيقته على ما أراد الله وأراد رسوله وعلى ما يليق بجلال الله وعظمته (آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران: 7). وقد تقدم ما يسره الله تعالى من تقرير الكلام في توحيد الإلهية والربوبية والأسماء والصفات وأنواع الشرك المضادة له فليراجع وبالله التوفيق.
(و) الثاني الإيمان (بالملائكة): الذين هم عباد الله المكرمون والسفرة بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام (الكرام) خلقا وخلقا، والكرام على الله تعالى (البررة) الطاهرين ذاتا وصفة وأفعالا، المطيعين لله عز وجل وهم عباد من عباد الله عز وجل، خلقهم الله تعالى من النور لعبادته ليسوا بناتا لله عز وجل ولا أولادا ولا شركاء معه ولا أندادا، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون والملحدون علوا كبيرا. قال الله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجري الظالمين) (الأنبياء: 26- 29) وقال تعالى: (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون) إلى قوله: (وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون) (الصافات: 151- 166) وقال تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) إلى قوله: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) (الزخرف: 15- 19) الآيات. وقال تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) (النساء: 142) وقال تعالى: (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) (الأنبياء: 19- 20) وقال تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير) (فاطر: 1) وقال تعالى: (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن) وقال تعالى: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) (الفرقان: 22) وقال تعالى: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) (الأعراف: 206). وقال تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) (مريم: 64) وقال تعالى ويوم: (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) (سبأ: 40- 41) وقال تعالى: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) (البقرة: 98) والآيات في ذكر الملائكة في القرآن كثيرة. أقسام الملائكة وخصائصهم. ثم هم بالنسبة إلى ما هيأهم الله تعالى له ووكلهم به على أقسام: فمنهم الموكل بالوحي من الله تعالى إلى رسله عليهم الصلاة والسلام، وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام، قال الله تعالى: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) (البقرة: 97) وقال تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء: 193) وقال تعالى: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) (النحل: 102) وقال تعالى: (إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) (النجم: 4- 9) وهذا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في الأبطح حين تجلى له على صورته التي خلق عليها، له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الأفق، ثم رآه ليلة المعراج أيضا في السماء كما قال تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى) (النجم: 13- 15). ولم يره صلى الله عليه وسلم في صورته إلا هاتين المرتين، وبقية الأوقات في صورة رجل، وغالبا في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه. وقال تعالى فيه: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين) (التكوير: 19- 23) الآيات. وقال تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) (سبأ: 23) تقدم الحديث في معنى الآية. وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل بأهل السماوات، كلما مر بسماء سأله ملائكتها، ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل عليه السلام: قال الحق وهو العلي الكبير ". فيقول كلهم مثل ما قال جبريل. ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل وهو في الصحيحين. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بعض الأحاديث في بدء الوحي من الفصل الآتي. ومنهم الموكل بالقطر وتصاريفه إلى حيث أمره الله عز وجل، وهو ميكائيل عليه السلام، وهو ذو مكانة علية ومنزلة رفيعة وشرف عند ربه عز وجل، وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه، ويصرفون الرياح والسحاب كما يشاء الله عز وجل. وقد جاء في بعض الآثار: ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومعها ملك يقررها في موضعها من الأرض. وفي حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: " على أي شيء ميكائيل؟ قال: على النبات والقطر ". ولأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل عليه السلام: " ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا قط؟ فقال عليه السلام: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار " عياذا بالله منها. ومنهم الموكل بالصور وهو إسرافيل عليه السلام، ينفخ فيه ثلاث نفخات بأمر ربه عز وجل: الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بسطه في موضعه. ولأحمد والترمذي من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له. قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا ". وهؤلاء الثلاثة من الملائكة هم الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه من صلاة الليل: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك أنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ". ومنهم الموكل بقبض الأرواح، وهو ملك الموت وأعوانه، وقد جاء في بعض الآثار تسميته عزرائيل، قال الله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) (السجدة: 11) وقال تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) (الأنعام: 61) وقال تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق) (الأنفال: 50) وقال تعالى: (الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) (النساء: 97) إلى قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) (النحل 32) وغيرها من الآيات. وقد جاء في الأحاديث أن أعوانه يأتون العبد بحسب عمله إن كان محسنا ففي أحسن هيئة وأجمل صورة بأعظم بشارة، وإن كان مسيئا ففي أشنع هيئة وأفظع منظر بأغلظ وعيد، ثم يسوقون الروح حتى إذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت فلا يدعونها في يده بل يضعونها في أكفان وحنوط يليق بها كما قال تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم) (الواقعة: 83- 96) سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ستغفر الله. ومنهم الموكل بحفظ العبد في حله وارتحاله وفي نومه ويقظته وفي كل حالاته وهم المعقبات، قال الله تعالى: (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغيرما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد: 10- 11) وقال تعالى: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) (الأنبياء: 42) وقال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة) (الأنعام: 18). قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية الأولى (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) (الرعد: 11): والمعقبات من الله هم الملائكة يحفضون من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله تعالى خلوا عنه. وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه إلا قال له الملك وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه. وقال تعالى: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) (الأنبياء: 42) قال ابن كثير: أي بدل الرحمن، يمتن سبحانه وتعالى بنعمته على عبيده وحفظه لهم بالليل والنهار وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام. أهـ. ومنهم الموكل بحفظ عمل العبد من خير وشر، وهم الكرام الكاتبون، وهؤلاء يشملهم مع ما قبلهم قوله عز وجل: (ويرسل عليكم حفظة) (الأنعام: 61) وقال تعالى فيهم: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) (الزخرف: 80) وقال تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) (ق: 17- 18) فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. وقال تعالى: (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) (الانفطار: 10). عن علقمة عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه ". فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي حسن صحيح. وروى البغوي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: " كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإن عمل سيئة قال صاحب اليمن لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ". وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به " وفي رواية: " ما لم تعمل أو تكلم به ". وفيه عنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا ". وفي رواية: " قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف. وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ". وفي أخرى: " قال الله عز وجل: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة- وهو تعالى أبصر به- فقال ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر امثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل ". وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: " إن الله تبارك وتعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة- زاد في رواية- أو محاها الله. ولا يهلك على الله إلا هالك ". وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى وتلا هذه الآية: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) (ق: 17) يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (الإسراء: 14) ثم يقول: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك. ا هـ. ويناسب ذكر المعقبات والحفظة ما روى البخاري رحمه الله تعالى في " باب قول الله عز وجل: (تعرج الملائكة والروح إليه) " قال: حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ". ورواه مسلم أيضا. وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: " إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يحفظ القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ". الحديث تقدم في العلو. والأحاديث في ذكر الحفظة كثيرة. ومنهم الموكلون بفتنة القبر وهم منكر ونكير، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر النصوص في ذلك قريبا، نسأل الله تعالى الثبات والتوفيق. ومنهم خزنة الجنة ومقدمهم رضوان عليهم السلام، قال الله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام وعليكم طبتم فادخلوها خالدين) (الزمر: 73) وقال تعالى: (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (الرعد: 23). ومنهم المبشرون للمؤمنين عند وفياتهم، وفي يوم القيامة، كما قال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) (فصلت: 30- 31) وقال تعالى فيهم: (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) (الأنبياء: 103). ومنهم خزنة جهنم عياذا بالله منها، وهم الزبانية، ورؤساؤهم تسعة عشر، ومقدمهم مالك عليهم السلام. قال الله تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا) (الزمر: 71) الآيات. وقال تعالى: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) (غافر: 49) وقال تعالى: (فليدع ناديه سندع الزبانية) (العلق 17- 18) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: 6) وقال تعالى: (وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا) (المدثر: 27- 30) وقال تعالى: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) (الزخرف: 77) وفي صحيح مسلم: " يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، كل زمام في يد سبعين ألف ملك يجرونها ". ومنهم الموكلون بالنطفة في الرحم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: " حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد " الحديث. وفي بابه من الأحاديث كثير، وفيها: " أن الملك يقول: يا رب مخلقة أو غير مخلقة أو توأم؟ ذكر أم أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الرزق وما الأجل؟ فيقضي الله تعالى ما يشاء. فيكتب الملك كما أمره الله عز وجل فلا يغير ولا يبدل ". ومنهم حملة العرش والكَرُوبِيُّونَ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) (غافر: 7) الآيات. وقال تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) (الحاقة: 17) ومفهوم هذه الآية من قوله تعالى: (يومئذ) أن حملة العرش ليسوا اليوم ثمانية، ويؤيد ذلك ما روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدق أمية بن الصلت في شيء من شعره. فقال: رجل وثور تحت رجل يمينه *** والنسر للأخرى وليث مرصد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق فقال: والشمس تطلع كل آخر ليلة *** حمراء يصبح لونها يتورد تأبى فما تطلع لنا في رسلها *** إلا معذبه وإلا تجلد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق ". وهذا إسناده جيد، لكن قد ورد ما يدل على أنهم في الدنيا أيضا ثمانية، وهو حديث العنان الذي رواه أبو داود وغيره وقد تقدم في العلو وفيه: " ثم فوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك ". وله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ". وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وعكرمة والضحاك وابن جريج: ثمانية صفوف من الملائكة. وقال الضحاك عن ابن عباس: الكروبيون ثمانية أجزاء، كل جزء منهم بعدة الإنس والجن والشياطين والملائكة. وفي حديث الصور الطويل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف إذ سمعنا من السماء حسا شديدا فهالنا، فينزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت. ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة وبمثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وهو آت. ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، فيحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة، أقدامهم في تخوم الأرض السفلى، والأرض والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم، لهم زجل في تسبيحهم يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت. سبوح قدوس قدوس قدوس. سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح. سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت " الحديث رواه ابن جرير والطبراني وغيرهما. ومنهم ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله عز وجل تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم بهم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك " الحديث تقدم في العلو وقال صلى الله عليه وسلم: " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيهتم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده " الحديث بطوله في الصحيح عن أبي هريرة. ومنهم الموكل بالجبال، وقد ثبت ذكره في حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عبد ياليل وعوده منهم. وفيه قول جبريل له صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوه عليك ". وفيه قول ملك الجبال: " إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين " فقال صلى الله عليه وسلم: " بل استأن بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ". وفيهم زوار البيت المعمور الذي أقسم الله تعالى به في كتابه، ثبت ذلك في حديث المعراج، وهو بيت في السماء السابعة بحيال الكعبة في الأرض، لو سقط لوقع عليها، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم؛ يعني لا تحول نوبتهم لكثرتهم. والحديث بألفاظه في الصحيحين. ومنهم ملائكة صفوف لا يفتون، وقيام لا يركعون، وركع وسجد لا يرفعون، ومنهم غير ذلك (وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر) (المدثر: 31). روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ظن ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى ". فقال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد. وقال الترمذي غريب. ويروى عن أبي ذر موقوفا. قلت: وله حكم الرفع، ومن أين لأبي ذر رضي الله عنه مثل هذا إلا عن توقيف والله أعلم. وعن حكيم بن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: " هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما في السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة: وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". وعن العلاء ابن سعد وقد شهد الفتح وما بعده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه: " هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: وما تسمع يا رسول الله؟ قال: أطت السماء وحق لها أن تئط، إنه ليس فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد. وقالت الملائكة: وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". وعن رجل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تعالى ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته، وما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينيه إلا وقعت على ملك يصلي وإن منهم ملائكة سجودا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإن منهم ملائكة ركوعا لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل فقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك وإسناده لا بأس به، وهو والذي قبله أخرجهما محمد بن نصر المروزي. وفي الصحيح عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف ". وفيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلقت الملائكة من نور العرش، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ". الإيمان بالكتب المنزلة (و) الثالث الإيمان (بكتبه المنزلة) على رسله (المطهرة) من الكذب والزور ومن كل باطل ومن كل ما لا يليق بها، قال الله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) (البقرة: 136) وقال تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل) (آل عمران: 84) إلى آخر الآية. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) (النساء: 136) وقال تعالى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم) (الشورى: 15) وقال تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) (التغابن: 8) وقال تعالى: (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون) (غافر: 70) الآيات. وقال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد: 25). ومعنى الإيمان بالكتب التصديق الجازم بأن كلها منزل من عند الله عز وجل على رسله إلى عباده بالحق المبين والهدى المستبين وأنها كلام الله عز وجل لا كلام غيره، وأن الله تعالى تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد فمنها المسموع منه من وراء حجاب بدون واسطة ومنها ما يسمعه الرسول الملكي ويأمره بتبليغه منه إلى الرسول البشري كما قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم) (الشورى: 51) وقال تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) (النساء: 164) (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) (الأعراف: 143) (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف: 144) (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (النجم: 10) وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) (الشورى: 52) (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) (النحل: 2) (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) ومنها ما خطه بيده عز وجل كما قال تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) (الأعراف: 145) والإيمان بكل ما فيها من الشرائع وأنه كان واجبا على الأمم الذين نزلت إليهم الصحف الأولى الانقياد لها والحكم بما فيها كما قال تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) إلى قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) (المائدة 44- 49). وإن جميعها يصدق بعضها بعضا لا يكذبه كما قال تعالى في الإنجيل: (مصدقا لما بين يديه من التوراة) (المائدة: 48). وقال في القرآن: (مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) (المائدة: 48). وإن كل من كذب بشيء منها أو أبى عن الانقياد لها مع تعلق خطابه به يكفر بذلك كما قال تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) (الأعراف: 40). وأن نسخ الكتب الأولى بعضها ببعض حق كما نسخ بعض شرائع التوراة بالإنجيل قال الله تعالى في عيسى عليه: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم) إلى قوله: (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون) (آل عمران: 48- 50) وكما نسخ كثير من شرائع التوراة والإنجيل والقرآن كما قال تعالى: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) (الأعراف: 156- 158) الآية. وأن نسخ القرآن بعض آياته ببعض حق كما قال تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) (البقرة: 106) وقال تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) (النحل: 101) الآيات. وكما قال تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) (الأنفال: 66) بعد قوله: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا) (الانفال: 65) والناسخ والمنسوخ آيات مشهورات مذكورات في مواضعها من كتب التفسير وغيرها. وأنه لا يأتي كتاب بعده ولا مغير ولا مبدل لشيء من شرائعه بعده، وأنه ليس لأحد الخروج عن شيء من أحكامه، وأن من كذب بشيء منه من الأمم الأولى فقد كذب بكتابه، كما أن من كذب بم أخبر عنه القرآن من الكتب فقد كذب به، وأن من اتبع غير سبيله ولم يقتف أثره ضل، قال تعالى: (المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) (الأعراف: 1- 3). ثم الإيمان بكتب الله عز وجل يجب إجمالا فيما أجمل وتفصيلا فيما فصل، فقد سمى الله تعالى من كتبه التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود في قوله تعالى: (وآتينا داود زبورا) (النساء: 163) والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صحف إبراهيم وموسى، وقد أخبر تعالى عن التنزيل على رسله مجملا في قوله: (والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) (النساء: 136) وقال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) إلى قوله: (وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) (البقرة: 136) وقال تعالى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) (الشورى: 15) فنقول كما أمرنا ربنا عز وجل: آمنا بما أنزل الله من كتاب وما أرسل من رسول. وقال تعالى في القرآن والسنة: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر: 7) (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران: 7). فلا بد في الإيمان به من امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والوقوف عند حدوده وتلاوته آناء الليل والنهار والذب عنه لتحريف الغالين وانتحال البطلين والنصيحة له ظاهرا وباطنا بجميع معانيها، نسأل الله تعالى أن يرزقنا كل ذلك ويوفقنا له ويعيننا عليه ويثبتنا به وجميع إخواننا المسلمين إنه ولي التوفيق. الإيمان بالرسل (و) الرابع الإيمان (برسله) وهم كل من أوحي إليه وأمر بالتبليغ، أما من أوحى إليه ولم يؤمر بالتبليغ فهو نبي فقط وليس برسول، فكل رسول نبي ولا كل نبي رسول. (الهداة) جمع هاد والمراد به هداية الدعوة والدلالة والإرشاد إلى سبيل الهدى، كما قال تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) (الرعد: 7) وقال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله) (الشورى: 52- 53). وأما هداية التوفيق والتسديد والتثبيت فليست إلا بيد الله عز وجل هو مقلب القلوب ومصرف الأمور ليس لملك مقرب، ولا نبي مرسل تصريف في شيء منهما فضلا عمن دونهما، ولذا قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) (البقرة: 272) وقال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) (القصص: 56). والإيمان برسل الله عز وجل متلازم من كفر بواحد منهم فقد كفر بالله تعالى وبجميع الرسل عليهم السلام كما قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (البقرة: 285) وقال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا أليما والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) (النساء: 150- 152) وقال تعالى: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) (النساء: 136) وقال تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل إلينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) (البقرة: 91) وقال تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوارة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين) (الصف: 6- 7) وقال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (آل عمران: 81- 82). ومعنى الإيمان بالرسل هو التصديق الجازم بأن الله تعالى بعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه، وأن جمعيهم صادقون مصدقون بارون راشدون كرام بررة أتقياء أمناء هداة مهتدون وبالبراهين الظاهرة والآيات الباهرة من ربهم مؤيدون، وأنهم بلغوا جميع ما أرسلهم الله به لم يكتموا منه حرفا ولم يغيروه ولم يزيدوا فيه من عند أنفسهم حرفا ولم ينقصوه، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين. وأنهم كلهم كانوا على الحق المبين والهدى المستبين، وأن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ محمد خليلا، وكلم موسى تكليما، ورفع إدريس مكانا عليا، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الله تعالى فضل بعضهم على بعض درجات. وقد اتفقت دعوتهم من أولهم إلى آخرهم في أصل الدين وهو توحيد الله عز وجل بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ونفي ما يضاد ذلك أو ينافي كماله كما تقدم ذلك في تقرير توحيد الطلب والقصد. وأما فروع الشرائع من الفرائض والحلال والحرام فقد تختلف فيفرض على هؤلاء ما لا يفرض على هؤلاء ويخفف على هؤلاء ما شدد على أولئك ويحرم على أمة ما يحل للأخرى وبالعكس لحكمة بالغة وغاية محمودة قضاها ربنا عز وجل ليبلوكم فيما آتاكم، ليبلوكم أيكم أحسن عملا. وقد ذكر الله تعالى في كتابه منهم آدم ونوحا وإدريس وهودا وصالحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوطا وشعيبا ويونس وموسى وهارون وإلياس وزكريا ويحيى واليسع وذا الكفل وداود وسليمان وأيوب، وذكر الأسباط جملة، وعيسى ومحمدا، وقص علينا من أنبائهم ونبأنا من أخبارهم ما فيه كفاية وعبرة وموعظة إجمالا وتفصيلا ثم قال: (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) (النساء: 162) وقال تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك) (غافر: 78) فنؤمن بجميعهم تفصيلا فيما فصل وإجمالا فيما أجمل. أولهم نوح بلا شك كما *** أن محمدا لهم قد ختما (أولهم) يعني أول الرسل عليهم السلام (نوح بلا شك) وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قاين بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام. والمعنى أن نوحا أول الرسل والنبيين بعد الاختلاف، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) (النساء: 163) لأن أمته أول من اختلف وغير وبدل وكذب كما قال تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم) (غافر: 5) وإلا فآدم قبله كان نبيا رسولا، وكان الناس أمة واحدة على دينه ودين وصية شيث عليه السلام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة ومجاهد وغيرهم رضي الله عنهم في قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) (البقرة: 213) الآية. قالوا: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، (كما أن محمدا) صلى الله عليه وسلم (لهم) أي للرسل (قد ختما) فلا نبي بعده كما قال تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) (الأحزاب: 40) وسيأتي إن شاء الله تعالى تقرير ذلك في موضعه من هذا المتن. وخمسة منهم أولو العزم الأولى *** في سورة الأحزاب والشورى تلا (وخمسة منهم) أي من الرسل (أولو) أي أصحاب (العزم) يعني الجزم والجد والصبر وكمال العقل، ولم يرسل الله تعالى من رسول إلا وهذه الصفات فيه مجتمعة، غير أن هؤلاء الخمسة أصحاب الشرائع المشهورة كانت هذه الصفات فيهم أكمل وأعظم من غيرهم؛ لذا خصوا بالذكر (في سورة الأحزاب) يعني قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) (الأحزاب: 7) فذكر تعالى أخذه الميثاق على جميع النبيين جملة ونص منهم على هؤلاء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتمهم ونوح وهو فاتحهم وإبراهيم وموسى وعيسى وهم بينهما (و) كذا ذكرهم على وجه التخصيص في سورة (الشورى) إذ يقول تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى: 13). وهؤلاء الخمسة هم الذين يتراجعون الشفاعة بعد أبيهم آدم عليه السلام حتى تنتهي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: " أنا لها " كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله. (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) الأحزاب: 7) الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم ". وفيه ضعف ويروى مرسلا وموقوفا على قتادة، وللبزار عنه رضي الله عنه موقوفا عليه قال: " خيار ولد آدم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد " صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم، والقول بأن أولي العزم هم هؤلاء الخمسة هو قول ابن عباس وقتادة ومن وافقهما وهو الأشهر، وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشفة مع الأعداء الدين، وقيل هم ستة: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف وهود والشعراء. وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه وإبراهيم صبر على النار وإسماعيل صبر على الذبح ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره ويوسف صبر على البئر والسجن وأيوب صبر على الضر. قلت: وقوله إسحاق صبر على الذبح هو قول مرجوح أو مردود وإنما كان الذبيح إسماعيل عليه السلام كما في سورة الصافات وهود. وقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبغيض كما يقال: اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز، وقال قوم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (الأنعام: 90). وروى ابن أبي حاتم بسنده عن مسروق قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم قال: " يا عائشة، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على محبوبها، ثم لم يرض مني أن يكلفني ما كلفهم فقال: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) (الأحقاف: 35) وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي، ولا قوة إلا بالله ".
وبالمعاد أيقن بلا تردد *** ولا ادعا علم بوقت الموعد لكننا نؤمن من غير امترا *** بكل ما قد صح عن خير الورى من ذكر آيات تكون قبلها *** وهي علامات واشراط لها (وبالمعاد) وهو المرد إلى الله عز وجل والإياب إليه (أيقن) استيقن بذلك يقينا جازما (بلا تردد)، هذا هو الركن الخامس من أركان الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر وما يدخل فيه، قال الله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) (البقرة: 4) وقال تعالى: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر) (البقرة: 177) الآية. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) (البقرة: 254) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) (البقرة: 264) وقال تعالى: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (البقرة: 281) وقال تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) (آل عمران: 7- 9) وقال تعالى: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (آل عمران: 25) وقال تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله) (النساء: 38- 39) الآيات. وقال تعالى: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا) (النساء: 87) وقال تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) (الشورى: 20) الآية. وقال تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) (النمل: 4) وقال تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) (الحجر: 85) وقال تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) (طه: 16) وقال تعالى: (إن الساعة آتية لا ريب فيها وإن الله يبعث من في القبور) (الحج: 7) وقال تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون) (النمل: 71- 72) وقال تعالى في الآية الأخرى: (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) (سبأ: 30) (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) (السجدة: 28- 29) وقال تعالى: (إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود) (هود: 103- 104) وقال تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) (لقمان: 33) وقال تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) (فاطر: 5) وقال تعالى: (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين) (الأنعام: 134) وقال تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) (النحل: 1) وقال تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) (الزمر: 9) وقال تعالى: (إن الساعة آتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) (غافر: 59) وقال تعالى: (فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) (المعارج: 5) وقال تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) (الزخرف: 83) الآيات. وقال: (إذا وقعت الواقعة) (الواقعة: 1) إلخ السورة، وقال تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) (الإنسان: 7) إلى آخر السورة. قال تعالى: (والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع) (الذاريات: 1- 6) وقال تعالى: (إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين) (المرسلات: 7- 15) إلى آخر السورة والتي تليها والتي تليها والتي تليها والتي تليها والتي تليها والتي تليها والتي تليها وغيرها من الآيات، بل وغيرها من السور، وسيأتي إن شاء الله مزيد نصوص في اللقاء والبعث والنشور. (و) ب (لا ادعا) بالقصر للوزن وهو مصدر ادعى يدعي ادعاء (علم) بوقت الموعد متى هو، فإن ذلك من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، قال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) (الأنعام: 59) الآية. وقال تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الأعراف: 187) والتي بعدها. وقال تعالى: (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) (الأنبياء: 40) وقال تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) (لقمان: 34) الآية. وقال تعالى: (إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) (فصلت: 47) الآيات. وقال تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) (الأحقاف: 35) وقال تعالى: (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) (الأحزاب: 63) وقال تعالى: (وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد) (الشورى: 17- 18) وقال تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) (الملك: 25- 27) وقال تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) (النازعات: 42- 46) وغيرها من الآيات. وتقدم حديث جبريل المشهور قوله عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: " أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " الحديث. وروى الإمام أحمد في مسنده عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خمس لا يعلمها إلا الله عز وجل: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض توت إن الله عليم خبير) ". وروى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس، ثم قرأ: (إن الله عنده علم الساعة) ". وفي الصحيحين أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه بصوت جهوري فقال: يا محمد. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاؤم- على نحو ما صوته- قال: يا محمد، متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك إن الساعة آتيه فما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولكني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله: المرء مع من أحب ". فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث. ففيه أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم وهو الاستعداد لوقوع ذلك والتهيؤ له قبل نزوله وإن لم يعرفوا تعيين وقته. ولمسلم عن عائشه رضي الله عنها قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة، فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول: " إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم "؛ يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة. وله عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ". وفي رواية أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: متى الساعة؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال: " إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ". قال أنس: ذلك الغلام من أترابي. وفي رواية عن أنس قال: مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أترابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ". وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قائمة؟ قال: " ويلك، وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: إنك مع من أحببت. فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: نعم. " ففرحنا يومئذ فرحا شديدا. فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني فقال: إن أخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ". قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد بساعتكم في حديث عائشة رضي الله عنها. وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: " تسألون عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على وجه ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة " رواه مسلم. وفي الصحيحين عن ابن عمر مثله، قال ابن عمر: وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن. وروى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى فتذكروا أمر الساعة، قال فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال عيسى: أما وجبتها فلم يعلم بها أحد إلا الله عز وجل، وفيما عهد إلي ربي عز وجل أن الدجال خارج، قال ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، وقال فيهلكه الله عز وجل، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، قال فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه. قال ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعوا لله عز وجل عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم؛ أي تنتن. قال فينزل الله عز وجل المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر. قال الإمام أحمد: قال يزيد بن هارون ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم "، ثم رجع إلى حديث هشيم قال: " ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها ليلا أو نهارا ". ورواه ابن ماجه بنحوه. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هؤلاد أكابر أولي العزم من الرسل ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام فتكلم على أشراطها؛ لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذا ببركة دعائه، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به. وروى الإمام أحمد عن حذيفة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: " علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو، ولكن سأخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها، إن بين يديها فتنة وهرجا. قالوا: يا رسول الله، الفتنة قد عرفناها فما الهرج؟ قال: بلسان الحبشة القتل. قال: ويلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحدهم يعرف أحدا ". وروى النسائي عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) (النازعات: 42) الآية. وإسناده جيد قوي، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفى والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهيل بن سعد رضي الله عنهما: " بعثت أنا والساعة كهاتين. وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها " ومع هذا كله قد أمره الله تعالى أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها فقال: (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الأعراف: 187) ا. هـ.
|